الذكاء الاصطناعي هو خلق جديد أم مجرد آلة ؟


لقد جاءت العلوم المعرفية كثورة على التصور السلوكي الذي كان بمثابة انعكاس لمبدأ الحتمية العلمية التي سادت الفزياء الكلاسيكية والعلوم الطبيعية الأخرى فكان هذا الانقلاب بمعناه الطوماسكوني(Thomas Kuhn) عبارة عن انتقال من اليقين إلى اللايقين في نقلة نوعية من العلم الحديث صوب العلوم المعرفية ، باعتبارها حقلا تناهجيا متشعبا يجمع بين (علم النفس المعرفي، الذكاء الاصطناعي، العلوم العصبية ، علم الكمبيوتر فلسفة الذهن، وعلم اللغويات.... الخ) فلم تعد الدراسة تبعا لهذا التصور خاضعة لمفهوم( مثير/استجابة)، بل تعدتها لتنحت جهازا مفاهيميا جديدا يُعنى بدراسة وظائف الدماغ ، وهكذا تحولت النظرة للعمليات الذهنية البشرية من اعتبارها علبة سوداء عصية على الفهم والتفسير العلمي، إلى كونها علبة بيضاء يمكن وصف ودراسة ما يتم خلالها من عمليات عقلية . ولعل من بين من جسدوا هذه الثورة هو مايعرف بالاتجاه الرقمي أوالحوسبي الذي قام بمعالجةٍ تقنية للمعلومة في إطار التقابل بين الكائن الحي والآلة ، فلم يقف هذا الاتجاه عند مستوى دراسة المعلومة العادية التي يتواصل بها البشر، بل اهتم بدراسة المعلومة كواقع موضوعي ينبغي ضبطه والتحكم فيه آلويا،إذ أصبحت المعلومة جزءا لايتجزأ من مفاهيم علم التحكم الآلي (Cybernétique LA)، فأصبحنا بذلك أمام تعريف شمولي للمعلومة يقضي بامكانية نَمْذَجتها والتعامل معها كمجموعة من الرموز التي لامعنى لها ، ليتم بذلك الانتقال من مستوى اللغة الطبيعية الى مستوى اللغة الاصطناعية الصورية، ومن ثم الانتقال من التحديد الأنطلوجي للإنسان الى التحديد الآلوي والاصطناعي له . 
عرفت العلوم المعرفية نضجها مع كل من(ألان تورينغ / و تشورشلاند) اللذين سيضعان اللبنات الأولى لنظرية المحاكاة (La théorie de la simulation) بين الذكاء الاصطناعي(L intelligence artificielle) والذكاء الانساني ، حيث سيصبح التفكير داخل هذه الخاصية التطابقية تعبيرا عن ولادة لغة اصطناعية تضمن سلامة هذه المحاكاة في اطار صيروراتنا المعرفية، واعتمادا علي مفهوم المحاكاة هذا سيكشف المخيال العلمي عن وجود كيان مادي في شكل آلة ، قادرة على حوسبة المعلومة وقد سميت في التداوليات المعرفية بآلة تورينيغ، تقوم بمعالجة المعلومة حسابيا عن طريق الترميز الثنائي (code binair ) المكون من تتابعات مكونة من الصفر والواحد، وعلى أساس هذه اللوغاريتمات يمكن تصميم وتنفيذ عدد لانهائي من البرامج . وقد كان تورينغ مقتنعا بإمكانية تصميم مثل هده الآلات التي تضاهي ذكاء الإنسان ولملا تتفوق عليه، ممهدا بذلك التساؤل عن مركزية التفكير الإنساني ، وقد تحقق هذا المشروع التوريتنغي على يد" فان نيومان " الذي أنشأ أول جهاز كمبيوتر في الأربعينات من القرن الماضي وهو جهاز يتكون من الوحدات الأساسية المسماة "بالهاردوير" (hardware) أو ما يمكن تسمية بالخردوات ، ثم هناك ما يسمى بنظام "السوفتوير" (software) باعتباره نظاما له القدرة على أن يكتب ويخزن ويمحو ما شاء من المعلومات..هكذا سيصبح الجهاز المعرفي المركزي عبارة عن نظام حاسوبي يهدف إلى تحقيق نوع من التوافق مع بيئته عن طريق القيام بمعالجة رمزية للمعلومة وكامتداد لهذا الانقلاب نجد أن(غاردنير ) يؤكد على إمكانية حوسبة تمثلاتنا العقلية ومعالجتها بشكل رمزي بعيدا عن القصدية . لتكون الدلالة التي يمكن الحديث عنها هي الدلالة الرمزية في طابعها الرقمي والتي سيتحول بموجبها العقل الإنساني إلى حاسوب يتكون من ثلاث وحدات رئيسية :*وحدة المدخلات وهي خاصة باستقبال المثيرات وتقابل هذه الوحدة نظام الحواس عند الإنسان . *وحدة المعالجة التي تقوم بمعالجة المعلومات وهي تقابل الجهاز الحركي للإنسان في تلاؤمه مع البيئة ويضيف هذا الاتجاه اختبارا سمي "الغرفة الصينية "(La chambre chinoise) يعمل هذا الاختبار على وضع شخص رفقة آلة داخل غرفة واحدة ثم يقدم إليهما بعض الأسئلة ليرى شخص آخر في غرفة أخرى هل في استطاعته التمييز بين إجابتيهما ، فإذا نجح هذا الشخص في التمييز بين الإجابتين سيكون الفشل هو مصير نظرية المحاكاة. بيد أنه أن لم يستطع التميز بينهما فهذا يعني أن هناك قابلية لتحقق هذا التصور الرقمي . 
نستنتج مما سبق أن العلم المعرفية (Les sciences cognitives) تعتبرالنظام المعرفي المركزي هو نظام يعتمد على المعالجة الشكلية لمجموعة لانهائية من الرموز التي هي بمثابة تمثلات للموضوعات الخارجية كونه يقوم على تشكيل وتركيب هده الرموزبصرف النظر عن معناها متجاوزا بذلك البراد يغم القديم الذي مثلته السلوكية في تفسيرها لموضوعات مجردة من قبيل( الدماغ الذهن المخ )وفق ثنائية (مثير/ استجابة )كما انه جاء تجاوزا للثنائية الديكارتية (عقل/جسد)وعلى أساس هذا التصور الجديد لن يظل التفكير حكرا على الإنسان بل يمكن أن نجده أيضا عند الآلة ككائن مفكر. وهذا ما يدفعنا للتساؤل عن إمكانية وجود هوية جديدة تحاكي هوية الإنسان ؟ ألا يمكن الحديث عن نمط تفكير آلوي جديد يمكن أن يحل محل التفكيرالماهوي للانسان ؟ ولملا التفوق على العقل البشري الذي خلقه أو بالأحرى صنعه ؟؟ وتبقى أفلام الخيال العلمي إحدى بوادر هذا التغيير الذي شهدته وتشهده الإنسانية ألا يمكن النظرالى هذا التطور العلمي كطموحات قد تعلن موت وانقضاء كائن اسمه الإنسان - إنسان الماهيات- والقول بخلق جديد. هل يمكن الاكتفاء بهذا التصور الحوسبي كنموذج يعكس حقيقة هذه المطابقة بين الآلة والإنسانة ؟ هل يمكن اختزال التفكير الإنساني في طريقة المعالجة الحوسبية للمعلومة ؟ أليس من الأجدر بأنصار العلوم المعرفية التعامل مع الدماغ في بعده المعقد ؟ ألا يمكن الحديث عن محاكاة ترابطية عوض المحاكاة الرقمية التي تعرفنا عليها فيما سبق ؟

Comments