حرر ذاتك منك

أين أنا؟ وأين ذاتي الحقيقية في صخب المسؤوليَّات، وضوابط المجتمعات، وتزلُّف العلاقات، وضجيج الالتزامات التي لا تنتهي ولا تستكين؟
أين ذاتي الحقيقية حين أُغلِّف عفويَّتي بالتملُّق، وصِدقي بالتزلُّف، وإبداعاتي بالتقليد..؟
هل ذاتي الحقيقية هي فعلاً ذاتي الاجتماعية التي صُنِعَت إرضاءً للآخرين؟
..
هل هدف حياتي الأساس هو أن أكون إنساناً آليًّا ضِمن مجتمع آليّ يقدِّس الآلات ويتنكَّر للحياة..
وهل أنا أعيش حياتي حقًّا، عندما أتربَّى على مجموعة كبيرة من "نماذج" فكرية كلّها مُعلَّبة، مُنمَّطة، مُقلَّدة، ومُقلِّدة تضجُّ بكلِّ المعادلات المَيتة، وتفتقر إلى الصدق، إلى الذكاء، إلى الحبّ، إلى العفوية، إلى البراءة، وإلى الإبداع؟
..
هل أنا ببَّغاء "نموذجية" تُردِّد كلمات بكلّ طلاقة.. كلمات سمعَتها من غيرها، وتكرِّرها بشكل مستمرّ، دون أن تنبع من ذاتها، أو أن تفكِّر فيها، أو تحاول تحليلها، أو نقدها، أو حتى فهمها؟
..
فما هي ذاتي الحقيقية وكيف أجدها؟
ولماذا أخذوا منِّي (جهاز التحكُّم عن بُعد) في حياتي.. وأصبحت شخصًا "نموذجيًا" يحرِّكونه بكبسة زرّ؟
وماذا فعلوا بي لكي أفقد حريتي "بكلّ إرادة حرَّة منِّي"؟
وماذا فعلوا بي لكي ألجأ إلى "ذات مقنَّعة"، احتمي بها وألجأ إليها طلبًا "للأمان" الاجتماعي؟
وما هي مسؤوليَّتي في الموافقة على استخدامي كآلة مُنتِجة ومُستهلِكة؟
وما هي مسؤوليَّتي في السعي للتحرُّر من ذاتي "النموذجية"، المزيَّفة، والمصطنعة لكي أصل إلى ذاتي الحقيقية الأصيلة التي لا تقبل الزيف.. ولا المصطنع؟
عماد سامي سلمان

صناعة الإنسان "النموذجي"

الحاجة الاجتماعية للإنسان

على مَرّ العصور، وَجد الإنسان نفسه مرغمًا لكي ينتمي إلى عائلة.. مجموعة صغيرة.. عشيرة.. قبيلة.. طائفة.. مجتمع.. وطن.. وأُمَّة..
فحاجة الإنسان إلى أن يعيش ضِمن مجتمع معيَّن هي حاجة فطرية أساسية نابعة من غريزتين أساسيَّتين (يتشارك معه فيهما معظم الحيوانات، الحشرات، النباتات، والمخلوقات الحية الأخرى) وهما:

- غريزة حبّ البقاء

التي يندرج منها: غريزة الأكل والشرب، الخوف من الموت، وباقي النزعات التي تدفعه للنضال من أجل المحافظة على حياته. فمن خلال التجربة، وعلى مَرّ العصور تعلَّمت المخلوقات الحية، ومنها الإنسان، بأنَّ البقاء ضمن مجموعة من جنسها، تتشارك معها في المأكل والمشرب والمأوى، يساعدها في المحافظة على حياتها من الأخطار التي تحيط بها من كلّ جانب.

- غريزة استمرار النوع

التي يندرج منها: الجنس، الأمومة، الأبوَّة، البنوَّة، الأخوَّة.. وهي غريزة فطرية تسعى إلى بقاء السلالات واستمرارها عبر الأجيال وعدم تعرُّضها لخطر الانقراض. وهذا ما قد يحصل عليه الكائن الفرد ضِمن وحدة اجتماعية (بدائية كانت أم متطوِّرة) فيجد الحبيبة والأخت والأخ والأب والأمّ والابن والابنة ضِمن هذا التكتُّل المجتمعي.

التعليب الاجتماعي

"نمذجة" الطفل الكوني
يدخل الإنسان في لعبة الحياة ليختبرها، وليحقِّق ذاته من خلالها.
فهذه الحياة هي حياته هو، كما الحلم هو حلم الحالم..
واختباراته الحياتية هي اختباراته هو، كما الحلم هو اختبار الحالم..
فلا حلم من دون حالم، ولا حياة من دون شاهد حيّ يشهد على وجودها..
فعندما يولد الطفل يكون طفلاً كونيًّا فطريًا عاريًا من كلّ شيء: من الثياب، الهويَّة، الانتماء الديني، الانتماء القومي، وحتى من اسمه. ورغم أنَّه يولد هكذا، فهو إنسان كامل يحمل في جيناته وروحه الإنسانية الأزلية اختبارات التجربة الإنسانية منذ آلاف العصور. فهو إنسان مستقلّ تمامًا. وصل إلى الحياة، ليتسنَّى له اختبارها كمخلوق يحمل تجربة إنسانية كونية واسعة لا تعي إلَّا ذاتها الحقيقية.
يُولد الطفل ويفرح جميع الأهل بقدومه فيطلقون عليه اسمًا "كما يحلو لهم"، ويُلبِسونه "ما يحلو لهم" من ثياب تناسب مجتمعهم، و"يكسونه" بمفاهيمهم الاجتماعية، بتقاليدهم، بأعرافهم، بهويَّتهم الوطنية والقومية، بأديانهم، بطوائفهم، بمذاهبهم، بأحقادهم التاريخية، بعداواتهم، بهواجسهم، وبعِقَدهم.. "كما يحلو لهم"، لا كما يحلو له.
فالطفل في هذه المرحلة لا يستطيع رفض ما يفعله أهله به، لأنَّه طفل صغير لا يقوى على تغيير أيِّ شيء بنفسه.. حتى (حفاضاته). لكنَّ خوفهم على طفلهم من أن "يحلِّق خارج السرب"، يجعلهم يفرضون عليه برامج منظومتهم الاجتماعية (كما فُرضت عليهم في السابق)، وذلك من خلال "التربية المُستدامة" التي تساهم فيها: الأسرة، الحي، المدرسة، العمل، المجتمع، ورجال الدين والسياسة. وهذه التربية المُستدامة لا تتوقَّف عند مرحلة عمرية معيَّنة، لكن الأساليب والأدوات تختلف فقط.
وعندما يكبر هذا الطفل، يقومون بمنعه من التصرُّف كإنسان ناضج، مستقلّ، له كيانه، ورأيه الخاص به، والذي قد يكون مخالفًا لرأي مجتمعه. وهذا ما قد يعرِّضه "للخطر"، ويعرِّض أهله لمواجهة "الإحراج الاجتماعي".
فيسعى المجتمع إلى إبقاء الإنسان "طفلاً"، غير ناضج، بحيث لا يقوى على تغيير حتى "حفاضاته الاجتماعية" بنفسه. وبذلك يبقى الشخص قاصراً، تابعًا، غير مستقلّ، تحتلُّه الاتِّكالية، يحتاج إلى من يفكِّر عنه، إلى من يحلّ مشاكله عنه، ويحتاج إلى من يتعكَّز عليه. وبما أنَّه كَبر وبقي صغيرًا، فلا بدَّ أن يختار "رمزًا أبويًّا" يتَّكئ عليه.. وما أكثر "الزعماء"، و"الأبطال"، و"الرعيان".. لتبوُّء هذا الرمز الأبوي المزيَّف.
والمجتمع هو الذي "يحتفل" بولادة الطفل.. وهو الذي "يبارك" زواجه حين يكبر "ضِمن التقاليد والأعراف".. ويتولَّى المجتمع طوال فترة حياة الطفل عملية تربيته، وتأطيره، وبرمجته، ونمذجته، وضبطه بحسب منظومته المجتمعية.. إلى أن يتكفَّل بمراسم موته ودفنه. وهكذا تكون آلية "التربية المُستدامة" غطَّت كلّ مراحل حياة الإنسان من المهد.. إلى اللَّحد.
ومن الواضح جليًّا أنَّ المجتمع هو من يصنِّف الشخص "بالشخص المثالي"، و"المواطن الصالح". ويكافئه إذا سار ضِمن "الخطّ الصحيح" المرسوم له اجتماعيًا بكلِّ دِقَّة. أو ينعته بأبشع العبارات مثل: ("الشاذّ"، "السيِّئ"، "المجنون"، "المرتدّ"، "المنحرف"، "الكافر".. الخ) في حال فضَّل الاستماع إلى صوته الداخلي الحقيقي على حساب هدير محرِّكات نظم الضبط الاجتماعية.
"يُرغَم الشخص، أثناء نموِّه، على التخلِّي عن معظم رغباته، واهتماماته المستقلَّة الأصيلة، وعن إرادته الشخصية. ليتبنَّى إرادة غير إرادته، ورغبات ومشاعر غير رغباته ومشاعره، تفرضها كلّها الأنماط الاجتماعية للفكر والشعور. فعلى المجتمع والأسرة، باعتبارها الوكيل النفسي الاجتماعي للمجتمع، أن تحلّ المعضلة الصعبة: كيف يمكن تحطيم إرادة الشخص، دون تمكينه من الوعي بذلك؟ والحقّ أنها قادرة بالفعل. فمن خلال عملية معقَّدة من التلقين والعقاب والثواب وبثّ الإيديولوجيات المناسِبة، تعتقد أغلبية الناس أنها تُسيِّر حياتها وفق إرادتها، دون أن تكون على وعي بأن إرادتها ذاتها مصنوعة ومكيَّفة (1).
فتنكفئ في الإنسان "الذات الحقيقية" المبدعة والعفوية، لتحيا "الذات المزيَّفة" الاجتماعية التي تتغذَّى بثقافة الاستلاب، وبالتزلُّف الاجتماعي، والرياء، والتقليد..
وهنا تكمن مهمَّة كلّ إنسان ضِمن رحلة تطوُّره:
.. من طفل كوني حرّ..
.. إلى شخص مبرمَج اجتماعيًا..
.. إلى إنسان كوني حرّ من جديد.
أي أن يتحرَّر الإنسان من (الرجل الآلي) الداخلي الذي تمَّت برمجته اجتماعيًا، ليعود (طفلاً طبيعيًا) من جديد، بالمعنى المجازي للكلمة، متحرِّرا من البرامج الاجتماعية الدخيلة على ذاته الحقيقية. لكي يحيا الحياة بكلِّيتها كإنسان يضجّ بالعفوية، والبراءة، والحبّ، والبساطة، والتسامح. وكي لا يعيش كدُمية اجتماعية مَيتة، تتحرَّك كما يريدها القيِّمون على المجتمع.. وكي لا تصل الإنسانية إلى خسارة "مئة مليون قتيل" جديد، كما حدث في القرن العشرين وحده، من جرَّاء حروب المجتمعات المتنافرة المصالح والميول، والمبرَّرة دائمًا "بمحاربة الشرّ".

Comments